التراث في العمق هو محور حياة الإنسان، يمارسه بشكل تلقائي وعفوي، وقد رافق البشرية منذ نشأتها، ولا يمكن للإنسان أن يتخلى عنه أبداً. ربما يخطر على البال عند الحديث عن التراث بعض مظاهر الفولكور والممارسات الشعبية المتعلقة بالفنون والأمثال الشعبية او الشعر الشعبي، وهي بالطبع جزء منه، لكن هناك جوانب أخرى هي الأكثر صعوبة وأهمية والتصاقاً بحياة الإنسان كالعادات والتقاليد والمعتقدات والطقوس التي يمارسها لخوفه من الغيب والمجهول. هذه الممارسات تتسم بالاستمرارية ولا تتغير ولا تختفي مهما تبدلت المجتمعات وتغيرت وتقدمت (قد تجد شخصاً يقود سيارة بورش ويضع فيها خمسة وخميسة او تميمة أخرى).

 

 

أما في ظل العولمة فقد أخذت المسألة منحىً آخر تمثل في رغبة المجتمعات في الحفاظ على ذاتيتها وخصوصيتها الثقافية نظراً لأن الهجمة كبيرة وشرسة. وربما تصب بعض جهود توثيق التراث وتسجيله والحفاظ عليه في المجتمعات المهددة ثقافياً في هذا الإطار، وتأتي كآلية من آليات الدفاع عن الذات أمام التغيرات الكاسحة التي تشهدها الدول والمجتمعات. بالطبع، التراث في جانب منه حامل لهوية المجتمع وثقافته، وإذا أردنا أن نربي جيلاً فاعلاً علينا أن نربطه بتراثه وأن نحافظ على روح التراث حيّة بين ظهرانيهم.في الحقيقة إن العولمة من حيث لا تقصد ساهمت في تمسك المجتمعات بخصوصيتها الثقافية وتراثها.

 

                                     

 

تتعدد المصطلحات التي تستخدم في التعبير عن التراث المعنوي من قبيل التراث الشعبي والمأثورات الشعبية والتراث اللامادي والفولكلور وغير ذلك، هل توجد فروق بين هذه المسميات؟

 

شهد هذا العلم تطوراً مستمراً، وفي كل مرحلة من مراحله كان يشيع له اسم. في الجهود المصرية الأولى شاع استخدام مصطلح “الفنون الشعبية” لارتباطه بالقصص الشعبي والسير الشعبية والرقص الشعبي، أما في السودان فشاع اسم فولكلور لأنه ارتبط بالجامعات وهو ما درجت عليه المدارس الأوروبية والمدرسة الأميركية في علم الأنثروبولوجيا الثقافية. وفي فترة لاحقة سمي بـ (المأثورات الشعبية) وقد استحدث هذا المصطلح من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وتبناه أيضاً مركز التراث الشعبي في قطر كترجمة لمصطلح الفولكلور، يؤخذ على هذا المصطلح أنه يوحي بأن التركيز ينصب على الآداب الشفاهية ويغفل جوانب أخرى من التراث.فيما سمته اليونسكو (غير مادي) فترجمه إخوتنا في المغرب العربي باسم التراث اللامادي لأن ال التعريف لا تدخل على لفظة غير. ونحن في الإمارات فكرنا في مصطلح (التراث المعنوي) لقناعتنا بأنه الأكثر دقة فضلاً عن دلالات الاسم التي توحي بالبعد التاريخي والتناقل والتوريث عبر الأجيال وتتسق مع الأهداف المتوخاة منه والرؤى الكبرى التي تربض ورءاه، فهو موجود في التراث العربي ويفيد معناه دلالة التواصل والاستمرارية. أما عن الفروق فثمة فروق دقيقة بين المصطلحات. نحن نفضل (تراث) أكثر من (مأثورات وفولكلور) ذات الأفق الدلالي الضيق، و(موروثات) التي تتفق لغوياً مع مصطلح التراث لكن الفرق يكمن في أن التراث لا يزال يؤدي دوراً وظيفياً في الراهن خلافاً للموروثات الشعبية التي يفترض أنها فقدت دورها الوظيفي، وباتت من الماضي.                                                                                   

 

 

ومن المستقر عليه أن التراث الثقافي غير المادي (المعنوي) يشمل "الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات - وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي"، وهو تعريف اليونسكو. إلى ذلك، ينمي هذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلاً عن جيل، لدى الجماعة الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها.                                                                                         

 

وتتسع مجالات التراث المعنوي اتساع الممارسة الحياتية ذاتها، فهي تشمل التقاليد وأشكال التعبير الشفهي (الأدب الشعبي)، ونقصد بها كل الجوانب الإبداعية المنطوقة (الشعر والأمثال والألغاز والأحاجي والحكايات والأساطير والأغاني والنداءات والمعاضلات اللسانية وأسماء الأماكن والمخلوقات والأشياء ومصطلحات المهن واللهجات الإقليمية وغيرها)، وفنون وتقاليد أداء العروض (الفنون الشعبية والموسيقى والأغاني الشعبية والآلات الموسيقية والرقص الشعبي والأعمال الدرامية والألعاب الشعبية)، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات (العادات والتقاليد) ومنها عادات دورة الحياة، الميلاد والتنشئة والزواج والوفاة، والأعياد والمناسبات المرتبطة بتواريخ وأزمان معينة في السنة مثل مواسم الغوص والقفال والحصاد وغيره، والعادات المرتبطة بأحداث كبيرة كالأعياد الدينية والقومية والاحتفالات التي تضم مجموعة كبيرة من الناس، والعادات المرتبطة بمعتقدات شعبية).

 

كما أن المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون (المعتقدات والمعارف العامة) تعتبر ضمن المجالات التي يعنى بها التراث المعنوي، وهي تضم المعتقدات والمعارف الشعبية والأولياء والصالحين والطب الشعبي والسحر والأحلام والكائنات فوق الطبيعية والروح في المعتقد الشعبي والمعتقدات والمعارف المتصلة بالإنسان، والحيوان، والنبات، والأحجار والمعادن، والأماكن، والأنطولوجيا الشعبية (فكرة الإنسان عن الأرض والسماء والكواكب)، والمعتقدات والمعارف المتصلة بالألوان والأعداد والنظرة الى العالم، وأوائل الأشياء وأواخرها، والاتجاهات.

 

ومن مجالاته أيضاً المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية: الثقافة المادية، العمارة الشعبية، الحرف والصناعات، آلات العمل، الأدوات والأواني المنزلية، الأشغال اليدوية على الخامات المختلفة، الأزياء والزينة والتشكيل الشعبي والألعاب والرياضات الشعبية.

 

لكن من الضروري ملاحظة ان هذه التقسيمات تتداخل في معظم الأحيان، وهي تتم لغرض الدراسة فقط فمعظم عناصر التراث تكون جزءاً من الحياة الطبيعية أكثر منها جزءاً من التراث المصنف، كما أننا مهتمون بالتاريخ الشفهي غير المدون إذ هناك فترات صمت التدوين فيها عن بعض الوقائع ولا بد من جمعها.

 

هنا لا بد من الانتباه الى مسألتين أو مرحلتين: الأولى هي عملية الجمع والتوثيق وفيها لابد من جمع التراث كله بصرف النظر عن موقفنا منه او مدى ملاءمته للعصر أو ما يحتويه من سلبيات أو (أشياء فالتة)، لأنها الحقيقة في حياة الناس. أما الثانية فهي الفرز والانتقاء، وتقع مسؤوليتها على عاتق مراكز البحوث التي تقوم بنشر وترويج التراث، إذ ينبغي انتقاء الجوانب الإيجابية. في التراث كما يعرف الجميع بعض الأمور التي تتعارض مع منطق العصر أو ربما مع الهدي الديني الصحيح أو الدعوة الى السلام. ربما تحمل في بعض الأحيان دعوات فئوية أو أقلوية أو طائفية أو تثير نزعات ونعرات انتقامية يفضل عدم إذكائها أو إحيائها بعد أن تجاوزها المجتمع أو اندثرت أو تصليب عودها بعد أن ضعفت. في تراثنا جوانب سلبية تتعارض مع حاجتنا الملحة الى النهوض الحضاري في هذه الفترة كتشجيع التواكل او الخضوع للأقوى أو الانسحاب من الفاعلية في الحياة المجتمعية، في حين ان الإنسان ينبغي أن يكون عزيزاً كريماً. لكن هناك ايضاً الكثير من الجوانب الإيجابية التي يمكن نشرها والترويج لها كالفضائل والقيم الأخلاقية والمثل العليا وكلها موجودة في التراث. 

 

بتصرف من استجواب أجرته شهيرة أحمد مع الدكتور إسماعيل الفحيل حول:التراث روح الشعب الحية

أضف تعليق

Les points de vues exprimés dans les commentaires reflètent ceux de leurs auteurs mais ne reflètent pas nécessairement le point de vue officiel de Yawatani.com qui, par conséquent, ne pourra en être tenu responsable.
De plus, Yawatani.com se réserve le droit de supprimer tout commentaire qu'il jurera non approprié.


كود امني
تحديث